زائر برداء داكن

كان , يبدو متعباً حين رأيته في ليلة باردة . يومها كنت قادماً من هواية تنشق الهواء البارد الذي يصل إلى أسفل الرئتين , ولكنه كان يرتعد , وملامح رداءه تظهر إنحناء قامته وتخفي تفاصيل وجهه إلا من بعض الظلال القاسية حول فمه المرتعش وأنفه الدقيق البارز . نظرت إليه فاشاح بوجهه بعيداً عني كي لا اراه , لكني حسبت أن ذلك خجلاً منه , هذا ما عرفته الآن بعد ان خدعني مظهره . قلت بصوت منخفض ما بالك أيها الغريب , وماذا تفعل في مثل هذه الساعة من الليل في هذا الجو ؟ لكنه لم يجب مما جعلني أخجل فيما لو وجه لي نفس السؤال ولكن كنت ارتدي ما يكفي لحماية جسدي من البرد , لذلك حسبت أنه أضعف من الرد , مددت يدي إليه وعرفته على إسمي ودعوته إلى منزلي , فقام ومشى صامتاً وبفارق خطوة خلفي وقد كنت ممسكاً بيده المغطاء برداءه الخشن فشعرت برعشة يديه وكذلك بإحساس غريب في داخلي , إلا أنني سرعان ما طردت الأفكار السيئة رغم أن عظام أصباعه كانت مثل عيدان حطب جف من قرون . وصلنا المنزل ففتحت الباب , وكنت لا أزال وحيداً بعد فقدان والدي . سرعان ما أحس بالدفء وبدأ وجهه يظهر شيئاً فشيئاً , اصابني الهلع وأنا أراه , كان بشعاً .
تسرب الخوف إلي وكان ألم الفراق لموت والدي لا يزال يعيش معي في البيت رغم مضي سنوات عدة ولم أستطع أن أتناسى بعضاً من الحزن المستمر . دخلت لأعد له كوباً من الشاي يدفيء عظامه كي أفهم منه شيئاً لأساعده , وحين عدت إلى الصالة كان قد أزاح عن رأسه ووجهه الرداء الداكن الخشن , فخفت بشاعة وجهه لزوال الظلال السوداء التي كانت بسبب النور الخافت وغطاء رأسه , لكنه بشع ولا يوحي بالثقة أو الإنسانية فعزوت ذلك إلى خوفي ووحدتي وحزني !
حاولت التحدث معه فأجاب بصوت كأنه قادم من قاع بئر حديدي لا نعومة في جدرانه , كنت أنتظرك أيها الرجل الطيب , وأعرف من تكون , ولوجود حزن كبير في حزنك لن يؤثر فيك . إستغربت هذا الكلام كثيراً فكيف له أن يعرفني ولم آراه في حياتي ؟؟؟؟
لم أشأ أن أكثر معه الكلام , كي لا أجرح فيه شيئاً رغم أنه يبدو وقحاً ولكنه طبعي , كما قال .
أحضرت له ما وجدت من طعام , وتركته يأكل حتى شبع , وبالطبع لم يترك شيئاً رغم كثرة الطعام , قلت له تفضل لتغسل يديك فرفض , أخذت الصحون الفارغة وعدت غليه فلم أجده , وكأنه تبخر ولكن كان في البيت ما يشبه السحابة , وبلون الرداء الخشن !!!
تحدث الصوت المعدني من حيث لا أدري وقال كنت طيباً ولكنك غبي أقصد بسيط , لا بل غبي وهي الأصح لأمثالك . وهنا تملكني غضب ما عرفته في حياتي , كيف لهذا الشيء الضعيف الذي إحتضنته وأطعمته طعامي ينعتني بالغبي وأنا من يفتخر بأنه بسيط ومتعلم ......
زاد حزني , غضبي وبدأت معركة بيني وبين هذا الشيء الذي صار كسحابة داكنة خشنة ووقحة , وفظ ومنتهز ومتستغل ....
أثارني أنه وأمثاله يمكن أن يجعلوا الأرض خالية من الرأفة والحنان والمعروف . ولكن كيف أطرد من لا كيان له ومنتشر في كل هواء البيت , رجوت الله أن يهديني لطريقة أطرده وفكرت ببساطني وتعليمي وما أعتز به من علم أفنيت عمري فيه , فصحت بأعلى صوتي , لا أيها الحقير الغباء شيء والبساطة شيء آخر , وأنا بسيط ولست بغبي . فتحت كل الشبابيك والأبواب ليدخل الهواء البارد النقي مكان الدفء الذي أتاح له فرصة أن ينتشر , وبدأت السحابة تضمحل وتضيع في الجو وتتبعثر بخشونتها محدثة صوتاً مقززاً , حين تكاد ذراتها تتلاقى مع بعضها ولكن الهواء النقي البارد يمزفها ويبعثرها مرة أخرى , حتى عم الهدوء الجو في الداخل والخارج فأغلقت الشبابيك والأبواب , وبدأ الدفء ينتشر ولكن بلا المخلوق البشع . الحمد لله .
في تلك الليه فكرت كثيراً ثمة فرق فعلاً بين الغباء والطيبة والبساطة , وعرفت أن ليس كل ما يلمع ذهباً , وإن وجدت ذهباً فلا ينبغي أن أخذه فربما إن كان حقيقياً يأتي صاحبه ليلتقطه مرة أخرى , أو يعود إلى اصله في التراب ليستخرج من جديد وينصهر . صحوت في الصباح لأتذكر أن لا أثق بكل من يخفي وجهه برداء داكن .