لو أن السادة العلماء اهتموا بالأطفال!

لو أن السادة العلماء اهتموا بالأطفال!

جمع وإعداد: بشير محمود سليمان

قال المروذي في كتاب الورع: "ورأيت أبا عبد الله مر على صبيان الكُتاب يقتتلون، ففرق بينهم".

قال شيخنا نزار الريان في شرح: فيه رأفة الإمام أحمد ورحمته بالخلق، وتواضعه إذ لم يأنف أن يصلح بين صبيان الكتاب، وهذا الخلق يدل على سهولة الإمام أحمد ويسر معاملته، فإنه لو كان على ما عليه المشايخ وبعض أهل العلم اليوم من شارة وهيئة، لمنعته شارته وهيئته من أن يصلح بين الصبيان.

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكلم الصغار ويمازحهم، ويفتح ذراعيه لهم، ويقول: من سبق فله كذا، عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُفُّ عبد الله وعبيد الله وكثيرًا من بني العباس ثم يقول:" من سبق إليَّ فله كذا وكذا" قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم(1)، وفي لفظ عند الطبراني(2):" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعنا، أنا وعبد الله وعبيد الله وقُثَم فيفرج يديه هكذا، فيمد باعه ويقول:" مَنْ سبق إليَّ فله كذا وكذا".

وكان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما يمتطيان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته في المسجد وبحضرة الناس ولا يزجرهما، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيباعدهما الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوهما، بأبي هما وأمي، من أحبني، فليحب هذين"(3).

ويقول لأخي أنس بن مالك:" يا أبا عمير، ما فعل النُّغَير؟" وهو طفل صغير، يسأله عن عصفوره الذي يلهو به، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قال: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ:" يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ"(4).

ولو أن السادة العلماء اهتموا بالأطفال اهتمام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلح الجيل، وارتقى في أسباب الهداية، لكن بعض أهل العلم اليوم تضيق بأبنائنا في المساجد، وتطردهم، لتستقبلهم الشوارع وفضائيات الأطفال غير الشرعية، والملاهي المتعددة، في بيئة سوء لا يصلح أن تكون بين أبناء الإسلام، فرحم الله الإمام أحمد وهو يشرع هذه الطريقة الناهجة في التودد للأطفال، وكم كان حظ هؤلاء الأطفال عظيمًا بالإمام أحمد وهو يصلح بينهم.

ورحم الله تعالى الإمام أحمد الياسين، وهو يقول في بداية الاغتصاب الثاني لأرض فلسطين: نحن واليهود في صراع على هذا الجيل، فبدأ وهو أستاذ المدرسة وإمام المسجد وخطيبه يجلس مع الأطفال عبر العقود الطويلة، حتى أخرج منهم من ملك قوة الإيمان والبندقية، حتى نال الشهادة، وكان طرد عدونا من قطاع غزة، مقدمةً طرد يهود من بقية فلسطين إن شاء الله تعالى.

وأستحضر هنا مشهد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله تعالى وهو جالس في المدرسة بعد انصراف الأساتذة والطلاب منها، ومعه بعض طلابه، يعلمهم الوضوء والصلاة جماعةً، ويرتل القرآن الكريم معهم ترتيلًا، ويقرأ عليهم بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يشرح لهم في مرة أخرى شيئًا من العقائد، وبين هذا وذاك، يذكرهم ببر الوالدين، وواجب أبناء فلسطين تجاه بلادنا فلسطين المغتصبة، حتى أحيى في الأمة هذا الجيل الذي يراه المسلمون اليوم شامة في المجاهدين، في وقت كان عدونا اليهودي يجهد أن يخرج الجيل من دينه وإسلامه، عبر رياضات المدارس وبرامجها الترفيهية، أو عبر المخيمات الصيفية على شواطئ بلادنا المغتصبة عام ثمانية وأربعين، أو عبر الملاهي التي أقام بعضها وسط مخيمات اللاجئين ليلهوا الأطفال عن قضيتهم، فكان الياسين يحوطهم برعايته، ويحويهم هو وإخوانه في بيوت الله تعالى حتى أخرج الله تعالى هذه الأجيال التي ملأت سمع الدنيا وبصرها ببطولات أقلها أن تودع الأم ولدها للموت في سبيل الله غير هيابة وغير هياب، تحتسب كل شيء في ولدها لله رب العالمين(5).

قال المروذي في كتاب الورع: "سألت أبا عبد الله: عن كسر الطنبور؟ قال: يكسر، قلت: فإذا كان مغطى؟ قال: إذا ستر عنك، فلا، قلت: فالطنبور الصغير يكون مع الصغير؟ قال: تكسره أيضًا إذا كان مكشوفًا فاكسره".

قال شيخنا الشهيد رحمه الله: فيه أن المنكر يغير ولو كان صغيرًا وفي يد الصبيان ممن لم يجر عليه القلم؛ لئلا يقسو عودهم على طبائع المنكرات، وإنَّ الناس اليوم تترك أولادها في يد الزنادقة من الأساتذة والمربين، فمحال أن ينطبع الطين على الطابع بما ليس منتقشًا به، ومن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره؟ ومتى يستقيم الظل والعود أعوج! ويكبر الصبيان وتكبر معهم البدع والمنكرات، ولا يسهل عليهم الانفكاك منها.

ومن المعلوم أنه لا يصلح كل أحد لتعليم الناشئة، وإنه من الآفات التي أصابت الأمة اليوم، أنه صار من حصل على شهادة كذا معلمًا للأجيال، بغض النظر عن دينه وإقباله على الله، فقد صار المبتدع الضال مدرسًا لأبناء المسلمين، وقد اتسع الخرق حتى صار أبناء المسلمين يدرسون تحت أيدي كنائس النصارى، في مدارس تهدم قيم الإسلام وأحكامه، وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية أن مِمَّا يُؤْخَذُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ فِي الْأَسْوَاقِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ، فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ لِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا، فَيُقَرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ، وَتَخْبُثُ بِهِ الْآدَابُ (6).

أما تعليم الصغار، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فأحاديثه كثيرة، من أشهرها، حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَخٍ كَخٍ" لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ:" أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟!"(7)، فغَيَّر النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا صغيرًا لا يتجاوز تمرة، في يد طفل صغير، والتربية على عظائم الأمور تبدأ بتغيير أحوال الصغار في المسائل الصغيرة، ولو أن والدًا تساهل مع ولده في أخذ تمرة من غير حلها، فإنه لا يدري ماذا سيفعل غدًا؟

ومن الأحاديث المعروفة أيضًا حديث ربيب النبي صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا غُلَامُ؛ سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ " (8).

فانظر إلى هذه الكلمات من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وكيف تغيرت صورة الحياة عند عمر بن أبي سلمة حين علمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقل الولد صغير، فإنَّ التعليم في الصغر أرجى ثمرة وأكثر بركة.

يقول الدكتور محمد لطفي الصباغ(9): سمعت من مالك بن نبي أن رجلاً جاء يسترشده لتربية ابن له أو بنت ولد حديثًا، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار، قال مالك بن نبي: وكنت أظن بادئ الأمر أني مبالغ، ثم إني عندما نظرتُ وجدت أن ما قُلتُه الحقُّ، وذلك أن الولد يبكي، فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أنَّ الصراخَ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر المولود على هذا(10).

.........................

1. أحمد رقم 1836، بسند فيه ضعف.

2. المعجم الكبير 19/188، بسند فيه متروك.

3. صحيح ابن حبان 15/427.

4. البخاري رقم 5664، ومسلم رقم 4003.

5. شرح كتاب الورع2/317.

6. الأحكام السلطانية للماوردي ص:255.

7. صحيح البخاري 2/128 رقم:1491.

8. صحيح البخاري 7/68 رقم: 5376.

9. نظرات في الأسرة المسلمة للدكتور محمد لطفي الصباغ ص: 146.

10. انظر شرح كتاب الورع2/333.